فصل: من مات في هذه السنة من أعيان العلماء والمشاهير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.من مات في هذه السنة من أعيان العلماء والمشاهير:

مات الشيخ الإمام العلامة المتفنن أوحد الزمان وفريد الأوان أحمد ابن عبد المنعم بن يوسف بن صيام الدمنهوري المذاهبي الأزهري، ولد بدمنهور الغربية سنة 1101 وقدم الأزهر وهو صغير يتيم لم يكفله أحد فاشتغل بالعلم وجال في تحصيله واجتهد في تكميله، وأجازه علماء المذاهب الأربعة وكانت له حافظة ومعرفة في فنون غريبة وتآليف، وأفتى على المذاهب الأربعة ولكن لم ينتفع بعمله ولا بتصانيفه لبخله في بذله لأهله ولغير أهله، وربما يبيح في بعض الأحيان لبعض الغرباء فوائد نافعة، وكان له دروس في المشهد الحسيني في رمضان يخلطها بالحكايات وبما وقع له حتى يذهب الوقت. وولي مشيخة الجامع الأزهر بعد وفاة الشيخ الحفني وهابته الأمراء لكونه كان قوالاً للحق أماراً بالمعروف سمحاً بما عنده من الدنيا. وقصدته الملوك من الأطراف وهادته بهدايا فاخرة، وسائر ولاة مصر من طرف الدولة كانوا يحترمونه، وكان شهير الصيت عظيم الهيبة منجمعاً عن المجالس والجمعيات. وحج سنة 1177 مع الركب المصري وأتى رئيس مكة وعلماؤها لزيارته وعاد إلى مصر. وتوفي يوم الأحد عاشر شهر رجب من السنة المذكورة، وكان مسكنه ببولاق، وصلي عليه بالأزهر بمشهد حافل جداً، وقرئ نسبه إلى أبي محمد البطل الغازي، ودفن بالبستان وكان آخر من أدركنا من المتقدمين.
ومات الإمام العلامة المحقق والفهامة المدقق شيخنا الشيخ مصطفى ابن محمد بن يونس الطائي الحنفي، ولد بمصر سنة 1138، وتفقه على والده وبه تخرج وبعد وفاة والده تصدر في مواضعه ودرس وأفتى وكان إماماً ثبتاً متقناً مستحضراً مشاركاً في العلوم والرياضيات فرضياً حيسوباً وله مؤلفات كثيرة في فنون شتى تدل على رسوخه، وكتب شرحاً على الشمائل وحاشية على الأشموني أجاد فيها وكان رأساً في العلوم والمعارف، توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات سيدي أبو مفلح أحمد بن أبي الفوز بن الشهاب أحمد بن أبي العز محمد بن العجمي، ويعرف بالشيشيني، وكان كاتب الكني بمنزل السادات الوقائية، وكان إنساناً حسناً بهياً ذا تودد ومروءة وعنده كتب جيدة يعير منها لمن يثق له للمطالعة والمراجعة. توفي يوم السبت آخر المحرم.
ومات شيخنا الإمام القطب وجيه الدين أبو المراحم عبد الرحمن الحسيني العلوي العيدروسي التريمي نزيل مصر، ولد بعد الغروب ليلة الثلاثاء تاسع صفر سنة 1125 ووالده مصطفى بن شيخ مصطفى بن علي زين العابدين ابن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن القطب الأكبر عبد الله العيدروس بن أبي بكر السكران بن القطب عبد الرحمن السقاف ابن محمد مولى الدويلة بن علي بن علوي بن محمد مقدم التربة بتريم ابن علي بن محمد بن علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبد الله بن أحمد العراقي بن عيسى النقيب بن محمد بن علي بن جعفر الصادق بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه فاطنة ابنة عبد الله الباهر ابن مصطفى بن زين العابدين العيدروس نشأ على عفة وصلاح في حجر والده وجده، وأجازه والده وجده وألبساه الخرقة وصافحاه، وتفقه على السيد وجيه الدين عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه، وأجازه بمروياته. وفي سنة 1153 توجه صحبة والده إلى الهند فنزلا بندر الشحر واجتمع بالسيد عبد الله بن عمر المحضار العيدروس فتلقن منه الذكر وصافحه وشابكه والبسه الخرقة وأجازه إجازة مطلقة مع والده، ووصلا بندر سورت واجتمع بأخيه السيد عبد الله الباصر وزارا من بها من القرابة والأولياء ودخلا مدينة بروج فزارا محضار الهند السيد أحمد بن الشيخ العيدروس وذلك ليلة النصف من شعبان سنة واحد وستين. ثم رجعا إلى سورة وتوجه والده إلى تريم وترك المترجم عند أخيه وخاله زين العابدين ابن العيدروس. وفي أثناء ذلك رجع إلى بلاد جادة وظهرت له في هذه السفرة كرامات عدة، ثم رجع إلى سورت وأخذ إذ ذاك من السيد مصطفى ابن عمر العيدروس والحسين بن عبد الرحمن بن محمد العيدروس والسيد محمد فضل الله العيدروس إجازة السلاسل والطرق، وألبسه الخرقة ومحمد فاخر العباسي والسيد غلام علي الحسيني والسيد غلام حيدر الحسيني والبارع المحدث حافظ يوسف السورتي والعلامة عزيز الله الهندي والعلامة غياث الدين الكوكبي وغيرهم، وركب من سورت إلى اليمن، فدخل تريم وجدد العهد بذوي رحمه وتوجه منها إلى مكة للحج وكانت الوقفة نهار الجمعة. ثم زار جده صلى الله عليه وسلم وأخذ هناك عن الشيخ محمد حياة السندي وأبي الحسن السندي وغبراهيم بن قيض الله السندي والسيد جعفر بن محمد البيتي ومحمد الداغستاني، ورجع إلى مكة فأخذ عن الشيخ السند السيد عمر بن أحمد وابن الطيب وعبد الله ابن سهل وعبد الله بن سليمان ما جرمي وعبد الله بن جعفر مدهور ومحمد باقشير ثم ذهب إلى الطائف وزار الحبر بن عباس ومدحه بقصائد، واجتمع إذ ذاك بالشيخ السيد عبد الله ميرغني وصار بينهما الود الذي لا يوصف. وفي سنة ثمان وخمسين أذن له بالتوجه إلى مصر فنزل إلى جدة وركب منها إلى السويس ومصر، هرعت إليه أكابر مصر من العلماء والصلحاء وأرباب السجاجيد والأمراء وصارت له معهم المطارحات والمذاكرات ما هو مذكور في رحلته وجمع حواسه لنشر الفضائل وأخلاها عن السوي، وهرعت إليه الفضلاء للأخذ والتلقي، وتلقى هو عن كل من الشيخ الملوي والجوهري والحفني وأخيه يوسف، وهم تلقوا عنه تبركاً، وصار أوحد وقته حالاً وقالاً مع تنويه الفضلاء به، وخضعت له أكابر الأمراء على اختلاف طبقاتهم، وصار مقبول الشفاعة عندهم لا ترد رسائله ولا يرد سائله، وطار صيته في المشرق والمغرب. وفي أثناء هذه المدة تعددت له رحلات إلى الصعيد الأعلى وإلى طندتا وإلى دمياط وغلى رشيد وإسكندرية وفوة وديروط، واجتمع بالسيد علي الشاذلي، وكل منهما أخذ عن صاحبه. وزار سيدي إبراهيم الدسوقي وله في كل هؤلاء قصائد طنانة. ثم سافر إلى الشام فتوجه إلى غزة ونابلس ونزل بدمشق ببيت الجناب حسين أفندي المرادي، وهرعت إليه علماء الشام وأدباؤها وخاطبوه بمدائح، واجتمع بالوزير عثمان باشا في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم في بيت السيد علي أفندي المرادي ثم رجع إلى بيت المقدس وزار وعاد إلى مصر، وتوجه إلى الصعيد ثم عاد إلى مصر وزار السيد البدوي ثم ذهب إلى دمياط. كعادته في كل مرة، ثم رجع إلى مصر ثم توجه إلى رشيد ثم الإسكندرية، ومنها إلى اسلامبول، فحصل له بها غاية الحظ والقبول ومدح بقصائد هرعت إليه الناس أفواجاً ورتب له في حوالي مصر كل يوم قرشان، ولم يمكث بها إلا نحو أربعين يوماً، وركب منها إلى بيروت ثم إلى صيدا ثم إلى قبرص ثم إلى دمياط وذلك غاية شعبان سنة تسعين. ثم دخل المنصورة وبات بها ليلة، ثم دخل مصر في سابع عشر رمضان. وكان مدة مكثه في الهند عشرة أعوام، وحج سبع عشرة مرة منها ثلاث بالجمعة وسفره من الحجاز إلى مصر ثلاث مرات وللصعيد ست مرات ولدمياط ثمان مرات. ولم يزل يعلو ويرقى إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني عشر محرم من هذه السنة، وخرجوا بجنازته من بيته الذي تحت قلعة الكبش بمشهد حافل، وصلي عليه بالجامع الأزهر، وقرئ نسبه على الدكة، وصلي عليه إماماً الشيخ أحمد الدردير ودفن بمقام ولي الله العتريس تجاه مشهد السيدة زينب، ورثي بمراث كثيرة ربما يأتي ذكرها في تراجم العصريين، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله. ثم إلى دمياط وذلك غاية شعبان سنة تسعين. ثم دخل المنصورة وبات بها ليلة، ثم دخل مصر في سابع عشر رمضان. وكان مدة مكثه في الهند عشرة أعوام، وحج سبع عشرة مرة منها ثلاث بالجمعة وسفره من الحجاز إلى مصر ثلاث مرات وللصعيد ست مرات ولدمياط ثمان مرات. ولم يزل يعلو ويرقى إلى أن توفي ليلة الثلاثاء ثاني عشر محرم من هذه السنة، وخرجوا بجنازته من بيته الذي تحت قلعة الكبش بمشهد حافل، وصلي عليه بالجامع الأزهر، وقرئ نسبه على الدكة، وصلي عليه إماماً الشيخ أحمد الدردير ودفن بمقام ولي الله العتريس تجاه مشهد السيدة زينب، ورثي بمراث كثيرة ربما يأتي ذكرها في تراجم العصريين، ولم يخلف بعده مثله رحمه الله.
ومات الوجيه المبجل عبد السلام أفندي بن أحمد الأزرجاني مدرس المحمودية كان إماماً فاضلاً محققاً له معرفة بالأصول قرأ العلوم ببلاده وأتقن في المعقول والمنقول، وقدم مصر ومكث بها مدة، ولما كمل بناء المدرسة المحمودية بالحبانية تقرر مدرساً فيها، وكان يقرأ فيها الدرر لمنلاخسرو وتفسير البيضاوي، ويورد أبحاثاً نفيسة. وكان في لسانه جبسة وفي تقرير عسر وبأخرة تولى تولى إمامتها، وتكلف في حفظ بعض القرآن، وجوده على الشيخ عبد الرحمن الأجهوري المقرئ، وابتنى منزلاً نفيساً بالقرب من الخلوتي وكان له تعلق بالرياضيات، وقرأ على المرحوم الوالد أشياء من ذلك، واقتني آلات فكلية نفيسة بيعت في تركته. مات بعد أن تعلل بالحصبة أياماً في يوم الثلاثاء سادس جمادى الأولى من السنة، ولم يخلف بعده في المحمودية مثله وجاهة وصرامة واحتشاماً وفضيلة رحمه الله.
ومات الإمام العلامة والحبر الفهامة الشيخ أحمد بن عيسى بن أحمد ابن عيسى بن محمد الزبيري الشافعي البراوي، ولد بمصر وبها نشأ وقرأ الكثير على والده وبه تفقه، وحضر دروس مشايخ الوقت في المعقول والمنقول وتمهروا نجب وعد من أرباب الفضائل. ولما توفي والده أجلس مكانه بالجامع الأزهر، واجتمع علي طلبة أبيه وغيرهم واستمرت حلقة درس والده على ما هي عليها من العظم والجلالة والرونق وإفادة الطلبة، وكان نعم الرجل صلاحاً وصرامة. توفي بطندتا في ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الأول فجأة، وجيء به إلى مصر فغسل في بيته وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بتربة المجاورين رحمه الله.
ومات الوجيه المبجل بقية السلف سيدي عامر بن الشيخ عبد الله الشبراوي تربى في عز ودلال وسيادة ورفاهية وكان نبيلاً إلا أنه لم يلتفت إلى تحصيل المعارف والعلوم، ومع ذلك كان يقتني الكتب النفيسة ويبذل فيها الرغائب، واستكتب عدة كتب بخط المرحوم الشيخ حسن الشغراوي المكتب، وهو في غاية الحسن والنورانية. ومن ذلك مقامات الحريري وشروحها للزمزمي وغيره وجلدها وذهبها ونقشوا اسمه في البصمات المطبوعة في نقش الجلود بالذهب، وعندي بعض على هذه الصورة، ورسم باسمه الشيخ محمد النشيلي عدة آلات فلكية وأرباع وبسائط وغير ذلك، واعتنى بتحريرها وإتقانها وأعطاه في نظير ذلك فوق مأموله، وحوى من كل شيء أظرفه وأحسنه مع أن الذي يرى ذاته يظنه غليظ الطبع. توفي رحمه الله يوم الجمعة تاسع عشرين المحرم من السنة.
ومات العلامة الفقيه الفاضل الشيخ محمد سعيد بن محمد صفر ابن محمد بن أمين المدني الحنفي نزيل مكة والمدرس بحرمها، تفقه على جماعة من فضلاء مكة وسمع الحديث على الشيخ محمد بن عقيلة والشيخ تاج الدين القلعي وطبقتهما وبالمدينة على الشيخ أبي الحسن السندي الكبير وغيره، وكان حسن التقرير لما يمليه في دروسه حضره السيد العيدروس في بعض دروسه وأثنى عليه. وفي آخر عمره كف بصره حزناً على فقد ولده. وكان من نجباء عصره أرسله إلى الروم وكان زوجاً لابنة الشيخ ابن الطيب، فغرق في البحر. وفي أثناء سنة 1174 ورد مصر ثم توجه إلى الروم على طريق حلب، فقرأ هناك شيئاً من الحديث، وحضره علماؤها ومنهم الشيخ السيد أحمد بن محمد الحلوى، وذكره في جملة شيوخه وأثنى عليه ورجع إلى الحرمين وقطن بالمدينة المنورة. ومن مؤلفاته الأربعة أنهار في مدح النبي المختار صلى الله عليه وسلم، وله قصيدة مدح بها الشيخ العيدروس. ولما حج الشيخ أحمد الحلوي في سنة تسعين، اجتمع به بالمدينة المنورة وذاكره بالعهد القديم فهش له وبش واستجاز منه ثانياً فأجازه، ولم يزل على حاله المرضية من عبادة وإفادة حتى توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى.
ومات الأمير عبد الرحمن أغا أغات مستحفظان وهو من مماليك إبراهيم كتخدا، وتقلد الأغاوية في سنة سبعين كما تقدم، واستمر فيها إلى سنة تسع وسبعين. فلما نفي علي بك النفية الأخيرة عزله خليل بك وحسين بك وقلدوا عوضه قاسم أغا، فلما رجع علي بك ولاه ثانياً وتقلد قاسم أغا صنجقاً، فاستمر فيها إلى سنة ثلاث وثمانين، فعزله وقلد عوضه سليم أغا الوالي، وقلد موسى أغا والياً عوضاً عن سليم المذكور وكلاهما من مماليكه. وأرسل المترجم إلى غزة حاكماً وأمره أن يتحيل على سليط. ويقتله. وكان رجلاً ذا سطوة عظيمة وفجور فلم يزل يعمل الحيلة عليه حتى قتله في داره وأرسل برأسه إلى علي بك بمصر، وهي أول نكتة تمت لعلي بك بالشام، وبها طمع في استخلاص الشام، فلما حصلت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك، انضوى إلى محمد بك. فلما استبد بالأمر قلده أيضاً الأغاوية فاستمر فيها مدته. ولما مات محمد بك انحرف عليه مراد بك وعزله وولى عوضه سليمان أغا وذلك في سنة تسعين، ولما وقعت المنافرة بين إسمعيل بك والمحمدية انضم إلى إسمعيل بك ويوسف بك واجتهد في نصرتهما وصار يكر ويفر ويجمع الناس ويعمل المتاريس ويعضد المتاريس ويعمل الحيل والمخادعات ويذهب ويجيء الليل والنهار، حتى تم الأمر وهرب إبراهيم بك ومراد بك واستقر إسمعيل بك ويوسف بك، فقلداه الأغاوية أيضاً، فاستمر فيها مدته، فلما خرج إسمعيل بك إلى الصعيد محارباً للمحمديين تركه بمصر فاستقل بأحكامها وكذلك مدة غياب محمد بك بالشام. فلما خان العلوية إسمعيل بك وانضموا إلى المحمدية ورجع إسمعيل بك على تلك الصورة كما ذكر، خرج معه إلى الشام إلى أن تفرق أمرهم فأراد التحول إلى جهة قبلي فانضم معه كثير من الأجناد والمماليك وساروا إلى أن وصلوا قريباً من العادلية، فأرسل مملوكاً له أسود ليأتيه بلوازم من داره ويأتيه بحلوان، فإنه ينتظره هناك وحلوان كانت في التزامه، وعدى مع الجماعة من خلف الجبل ونزلوا بحلوان وركبوا وساروا وتخلف هو عنهم للقضاء المقدر ينتظر خادمه، فبات هناك. وحضر بعض العرب وأخبر مراد بك فأرسل الرصد لذلك العبد وركب هو في الحال وأتاه الرصد بالعبد في طريق ذهابه، فاستخبره فأعلمه بالحقيقة بعد التنكر فسار مستعجلاً إلى أن أتى حلوان واحتاط بها وهجمت طوائفه على دوار الأوسية وأخذوه قبضاً باليد وعروه ثيابه حتى السراويل سحبوه بينهم عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين، وأحضروه بين يدي مراد بك فلما وقعت عينه عليه أمر بقطع يديه، وسلموه لسواس الخيل يصفعونه ويضربونه على وجهه، ثم قطعوا رقبته حزاً بسكين ويقولون له: انظر قرص البرغوث، يذكرونه قوله لمن كان يقتله: لا تخف يا ولدي إنما هي كقرصة البرغوث، ليسكن روع المقتول على سبيل الملاطفة. فكانوا يقولون ذلك على سبيل التبكيت. ودخل مراد بك في صبحها برأسه أمامه على رمح، ودفن كما ذكر، ولم يأت بعده في منصبه من يدانيه في سياسة الأحكام والقضايا والتحيلات على المتهومين حتى يقروا بذنوبهم وكان نقمة الله على المعاكيس وخصوصاً الخدم الأتراك المعروفين بالمسراجين. واتفق له في مبادئ ولايته أنه تكرر منه أذيتهم فشكوا منه إلى حسين بك المقتول، فخاطبه في شأنهم فقال له: هؤلاء أقبح خلق الله وأضرهم على المسلمين وأكثرهم نصارى ويعملون أنفسهم مسلمين ويخدمونكم ليتوصلوا بذلك إلى إيذاء المسلمين، وإن شككت في قولي أعطني إذناً بالكشف عليهم لأمير المختون من غيره. فقال له الصنجق. افعل ما بدا لك. فلما كان في ثاني يوم هرب معظم سراجين الصنجق ولم يتخلف منهم إلا من كان مسلماً ومختوناً، وهو القليل، فتعجب حسين بك من فطانته ومن ذلك الوقت لم يعارضه في شيء يفعله، وكذلك علي بك ومحمد بك. ولما خالف محمد بك على سيده وانفصل عنه وذهب إلى قبلي وانضم إليه خشداشه أيوب بك وتعاقدا وتحالفا على المصحف والسيف ونكث أيوب بك العهد وقضى محمد بك عليه بقطع يده ولسانه، أرسل إليه عبد الرحمن أغا هذا ففعل به ذلك، ولما حضر إليه ليمثل به ودخل إليه وصحبته الجلاد، وصار يقول للجلاد: ارفق بسيدي ولا تؤلمه، ونحو ذلك. ولما ملك محمد بك ودخل مصر أرسله إلى عبد الله بك كتخدا الباشا الذي خامر على سيده وانضم إلى علي بك فذهب إليه وقبض عليه ورمى عنقه في وسط بيته ورجع برأسه إلى مخدومه وباشر الحسبة مدة مع الأغاوية. وكان السوقة يحبونه، وتولى ناظراً على الجامع الأزهر مدة وكان يحب العلماء ويتأدب مع أهل العلم ويقبل شفاعتهم، وله دهقنة وتبصر في الأمور وعنده قوة فراسة وشدة حزم حتى غلب القضاء على حزمه عفا الله عنه. يحبونه، وتولى ناظراً على الجامع الأزهر مدة وكان يحب العلماء ويتأدب مع أهل العلم ويقبل شفاعتهم، وله دهقنة وتبصر في الأمور وعنده قوة فراسة وشدة حزم حتى غلب القضاء على حزمه عفا الله عنه.
ومات الأمير عبد الرحمن بك وهو من مماليك علي بك وصناجقه الذين أمرهم ورقاهم، فهو خشداش محمد بك أبي الذهب وحسن بك الجداوي وأيوب بك ورضوان بك وغيرهم. وكان موصوفاً بالشجاعة والإقدام، فلما انقضت أيام علي بك وظهر أمر محمد بك خمل ذكره مع خشدشينه إلى أن حصلت الحادثة بين المحمدين وإسمعيل بك فرد لهم أمرياتهم، إلا عبد الرحمن هذا فبقي على حاله مع كونه ظاهر الذكر. فلما كان يوم قتل يوسف بك وكان هو أول ضارب فيه. وهرب في ذلك اليوم من بقي من المحمد وأخرج باقيهم منفيين ردوا له صنجقيته كما كان ثم طلع مع خشداشينه لمحاربتهم بقبلي، ثم والسوا على إسمعيل بك وانضموا إليهم، ودخلوا معهم إلى مصر كما ذكر. ثم وقع بينهم التحاقد والتزاحم على إنفاذ الأمر والنهي. وكان أعظم المتحاقدين عليهم مراد بك وهم له كذلك، وخيل الفريقان من بعضهم البعض وداخل المحمدية الخوف الشديد من العلوية إلى أن صاروا لا يستقرون في بيوتهم، فلازموا الخروج إلى خارج المدينة والمبيت بالقصور. وخرج إبراهيم بك وأتباعه إلى جهة العادلية ومراد بك وأتباعه إلى جهة مصر القديمة. فلما كان يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى، أصبح مراد بك منتفخ الأوداج من القهر، فاختلى مع من يركن إليهم من خاصته، وقال لهم: إني عازم في هذا اليوم على طلب الشر مع الجماعة. قالوا: وكيف نفعل. قال: نذهب إلى مرمى النشاب ولا بد أن يأتينا منهم من يأتي، فكل من حضر عندنا منهم قتلناه، ويكون ما يكون بعد ذلك. ثم ركب ونزل بمصاطب النشاب وجلس ساعة، فحضر إليه عبد الرحمن بك المذكور وعلي بك الحبشي فجلسا معه حصة ومراد بك يكرر لأتباعه الإشارة بضربهما وهم يهابون ذلك، ففطن له سلحدار عبد الرحمن بك، فغمز سيده برجله، فهم بالقيام، فابتدره مراد بك وسحب بالته وضربه في رأسه، فسحب الآخر بالته وأراد أن يضربه فألقى بنفسه من فوق المصطبة إلى أسفل، وعاجل أتباع مراد بك عبد الرحمن بك وقتلوه. وفي وقت الكبكبة غطى علي بك الحبشي رأسه بجوخته واختفى في شجر الجميز، وركب في الحال مراد بك وجمع عشيرته وأرسل إلى إبراهيم بك فحضر من القبة إلى القلعة، وكان ما ذكر واستمر عبد الرحمن بك مرمياً بالمصطبة حتى حضر إليه أتباعه وشالوه ودفنوه بالقرافة.
ومات الأمير أحمد بك شنن وأصله مملوك الشيخ محمد شنن المالكي شيخ الأزهر، فحصل بينه وبين ابن سيده وحشة ففارقه ودخل في سلك الجندية، وخدم علي بك وأحبه ورقاه وأمره إلى أن قلده كتخدا االجاويشية، فلم يزل منسوباً إليه ومنضماً إلى أتباعه. وتقلد الصنجقية وصاهره حسن بك الجداوي وتزوج بابنته وبنى لها البيت بدرب سعادة، ولم يزل حتى قتل في هذه الواقعة، وكان فيه لين جانب ظاهري ويعظم أهل العلم ويظهر لهم المحبة والتواضع.
ومات الأمير إبراهيم بك طنان وهو من مماليك حسن أفندي مملوك إبراهيم أفندي المسلماني، وكانوا عدة وعزوة معروفين ومشهورين في البيوت القديمة، ومنهم مصطفى جربجي وأحمد جربجي. ثم لما ظهر أمر علي بك انتسبوا إليه وخرجوا مع محمد بك عندما ذهب لمحاربة خليل بك وحسين بك كشكش ومن معهم بناحية المنصورة، فوقع في المقتلة أحمد جربجي المذكور وأعجب بهم محمد بك في تلك الواقعة فأحبهم وضمهم إليه ولازموه في الأسفار والحروبات. ولما خالف علي سيده علي بك وهرب إلى الصعيد خرجوا معه كذلك، ومات مصطفى جربجي على فراشه بمصر أيام علي بك وصار كبيرهم والمشار إليه فيهم إبراهيم جربجي. فلما رجع محمد بك وتعين في رياسة مصر قلده صنجقاً ونوه بشأنه وأنعم عليه وأعطاه بلاداً مضافة إلى بلاده منها سندبيس ومنية حلفة وباقي الأمانة. وكان عسوفاً ظالماً الفلاحين لا يرحمهم، وله مقدم من أقبح خليقة الله من منية حلفة، فيغري بالفلاحين ويسجنهم ويعذبهم ويستخلص لمخدومه منهم الأموال ظلماً وعدواناً. فلما حصلت تلك الحادثة وهرب إبراهيم بك المذكور مع إسمعيل بك اجتمع الفلاحون على ذلك المقدم وقتلوه وحرقوه بالنار. وكان إبراهيم بك هذا ملازماً على زيارة ضرائح الأولياء، في كل جمعة يركب بعد صلاة الصبح إلى القرافة ويزور قبور البستان وقبور أسلافه ثم يذهب إلى زيارة الشافعي ويخرج منه ماشياً فيزور الليث وما جاوزهما من المشاهد المعروفة كيحيى الشييه والسادات الثعالبة والعز وابن حجر وابن جماعة وابن أبي جمرة وغير ذلك، وكان هذا دأبه في كل جمعة. ولما وقعت الحوادث خرج مع إسمعيل بك إلى غزة، فلما سافر إسمعيل بك ونزل البحر تخلف عنه ومات ببعض ضياع الشام وظهر له بمصر ودائع أموال لها صورة.
ومات الأمير إبراهيم بك بلفيا المعروف بشلاق، وهو مملوك عبد الرحمن أغا بلفيا بن إبراهيم بك، وعبد الرحمن أغا هذا هو أخو خليل بك. وكان علي بك ضمه إليه وأعجبه شجاعته فقلده صنجقاً وصار من جملة صناجقه وأمرائه ومحسوباً منهم. فلما حصلت هذه الحادثة كان فيهم وقتل معهم.
ومات الأمير الكبير حسن بك رضوان أمير الحاج وهو مملوك عمر بك بن حسين رضوان تقلد الصنجقية بعد موت سيده وجلس في بيته وطلع أميراً بالحج سنة ثمان وسبعين وتسع وسبعين وعمل دفتردار مصر، ثم عزل عنها وطلع بالحج في سنة إحدى وثمانين وسنة اثنتين وثمانين، وقلد رضوان بك مملوكه صنجقاً. فلما تملك علي بك نفى رضوان بك هذا فيمن نفاهم في سنة واحد وثمانين، ثم رده ثم نفاه مع سيده بعد رجوعه من الحج في سنة ثلاث وثمانين إلى مسجد وصيف، ثم نقل إلى المحلة الكبرى فأقام بها إلى سنة إحدى وتسعين، فكانت مدة إقامته بالمحلة نحو ثمان سنين. فلما تملك إسمعيل بك أحضره إلى مصر وقلده إمارة الحج سنة واحد وتسعين كما ذكر، فلما انضم العلوية إلى المحمدية ورجعوا إلى مصر وهرب إسمعيل بك بمن معه إلى الشام لم يخرج معه وبقي بمصر لكونه ليس من قبيلتهم، وانضوى إلى العلوية كغيره لظنهم نجاحهم، فوقع لهم ما وقع وقتل مع أحمد بك شنن بشير أو أوتوا بهما إلى بيوتهما وكل منهما ملفوف في قطعة خيمة، ودفن حسن بك المذكور عليه رحمة الله وكان أميراً جليلاً مهذباً كريم الأخلاق لين الجانب يحب أهل الصلاح والعلم، وعاشر بالمحلة صاحبنا الفاضل اللبيب الأديب الشيخ شمس الدين السمربائي الفراغلي وأحبه واغتبط به كثيراً وأكرمه وحجزه عنده مدة إقامته بالمحلة ومنعه عن الذهاب إلى بلده إلا لزيارة عياله فقط في بعض الأحيان، ثم يعود إليه سريعاً ويستوحش لغيابه عنه، فكان لا يأتنس إلا به. وللشيخ شمس الدين فيه مدائح ومقامات وقصائد.